**كاري حنكو**
**كاري حنكو**
لم أستغرب، مثل بقية الزملاء الصحافيين مدراء الجرائد الذين جرهم العقيد معمر القذافي إلى المحاكمة، دخول حكومة عباس الفاسي على الخط في شخص وزارة العدل، وانصياعها بالكامل لطلب الفاسي الفهري، وزير الخارجية، الرامي إلى تحريك الدعوى القضائية ضدنا نزولا عند رغبة مكتب «الأخوة الليبي» بالرباط.
فمن حكومة كالتي عندنا يوجد على رأسها شخص كعباس الفاسي لا يترك فرصة تمر دون أن يعبر فيها عن كرهه للصحف والصحافيين المغاربة، بل ويتباهى بهذه الكراهية في حواراته الصحافية التي يمنحها للمجلات الأجنبية التي «تدلعه» و«تفششه» بأسئلتها السخيفة، يمكن أن تنتظر الأسوأ.
بالنسبة إلي شخصيا، فأنا مقتنع بأن قبول الحكومة النزول عند رغبة مكتب «الأخوة الليبي» وجرنا إلى المحاكمة بتهمة المس بكرامة «ملك الملوك» العقيد الفاتح المجاهد معمر القذافي، أطال الله في عمره، ليست سوى ذريعة جديدة للانتقام من «المساء» ومن خطها التحريري المنتقد للحصيلة الحكومية، وعلى رأسها عباس الفاسي ووزيره في الخارجية الذي تجمعه به رائحة الشحمة في الشاقور.
وكنت دائما أعتقد أنه من حق كل هيئة محلية أو أجنبية أن تقدم شكايات إلى القضاء بسبب ما تنشره الصحافة حولها. لكن أن تغلق الحكومة، وخصوصا وزارة الخارجية، عيونها (ويعلم الله كم هي كثيرة) عن المعاملة الإجرامية التي تعامل بها ابن الزعيم الليبي وزوجته مع مواطن مغربي يشتغل في خدمتهما خلال تواجده معهما في سويسرا، في الوقت الذي تبنى فيه محام سويسري قضيته وقضية زميلته التونسية التي تعرضت لنفس المعاملة الوحشية التي تعرض لها. وفي مقابل ذلك، تفتح هذه العيون علينا عندما نكتب منتقدين رئيس دولة لا يكف لسانه السليط حتى عن زملائه من رؤساء الدول وملوكها، فهذا هو ما ينطبق عليه قول الشاعر «أسد علي وفي الحروب نعامة». مع الاعتذار للنعامة، طبعا، على تشبيهها بوزارة الخارجية.
لذلك أعتبر أن من يحاكم «المساء» اليوم ومعها الجرائد الأخرى، ليس مكتب «الأخوة الليبي» وإنما حكومة عباس الفاسي. يجب ألا نخطئ الخصم، فعباس الفاسي ومعه الفاسي الفهري وزير الخارجية وعبد الواحد الراضي وزير العدل هم الذين تعاونوا على إيصال «الخبز للفران»، ولذلك فهم أطراف في هذه المحاكمة الهزلية التي يريدون من روائها جبر خاطر العقيد وتضميد أناه المتضخمة والمخدوشة والانتقام، في الوقت نفسه، لأنفسهم من ثلاثة صحف لم توفر جهدا منذ تنصيب الحكومة العباسية في انتقاد فشلها وعجزها المزمن عن إتمام الأوراش الكبرى التي تركتها حكومة إدريس جطو.
وواضح أن الحكومة المغربية قد استفادت من الدرس السويسري واستوعبت مغزاه جيدا. فبسبب دفاع هذه الدولة الديمقراطية عن حقوق خادمين ضد مشغلهم الذي يعتبر نفسه فوق القانون، قاطع العقيد سويسرا اقتصاديا ومنع استيراد أي شيء منها إلى حين تقديمها اعتذارا علنيا إلى ابنه وزوجته اللذين اعتقلا وحققت معهما الشرطة بسبب اعتدائهما بالضرب والجرح على مواطن مغربي ومواطنة تونسية.
وبمجرد ما توصل عباس الفاسي بأخبار تفيد بأن العقيد غاضب بسبب ما تنشره بعض الصحف المغربية عنه، وأن الاستثمارات الليبية في المغرب يمكن أن تجمع حقائبها حيث دولارات النفط وتغادر نحو مكان آخر، وربما يتطور الأمر إلى مقاطعة ليبية للمغرب، وجدها مناسبة مواتية لتصفية حسابه الشخصي مع هذه الصحف التي تقلق راحته البيولوجية في الحكومة.
و «المساء» توجد على قائمة الصحف التي وضعتها شركات ليبية في المغرب على لائحة الممنوعين من إعلاناتها لأنها لا تلعق الحذاء العسكري للعقيد كما عودته على ذلك بعض الصحف.
لذلك فأنا لست عاتبا على الإخوة في «مكتب الأخوة الليبي» لأنهم وضعوا شكايات بثلاثة مدراء صحف دفعة واحدة، فهم في نهاية المطاف ليسوا سوى موظفين ينفذون التعليمات، بل أنا غاضب وناقم وأشعر بالخزي من موقف حكومة بلادي التي قبلت أن تلعب دور «العبد مشرط الحناك» في خيمة العقيد الذي أصبح يعتقد أنه بمجرد تنصيبه لنفسه «ملك الملوك» في إفريقيا فإننا نحن المغاربة سنصبح ضمن رعاياه.
أشعر بالخزي لأن وزارة الخارجية لم تكلف نفسها، في يوم من الأيام، عناء فتح ملف مئات المعتقلين المغاربة في سجون العقيد، والذين قادهم حظهم العاثر إلى صحاري ليبيا بينما كانوا في الطريق إلى شواطئ إيطاليا. هؤلاء المئات من المغاربة والمغربيات الذين يعاملون في سجون العقيد مثل الحشرات، ويتعرضون للتعذيب بأبشع الوسائل، لم تتحرك وزارة الخارجية المغربية يوما للسؤال عنهم وتكليف محام بمؤازرتهم وتحريرهم من سجون العقيد. كما نشعر بالخزي لأن البرلمان لم يتطرق لهذه الكارثة الإنسانية بوضع سؤال على وزير الهجرة، الذي يبدو أنه لا يهتم سوى باليد العاملة التي تجلب العملة الصعبة، أما اليد المهاجرة المقيدة بالأغلال في سجون «ملك الملوك» فلا حاجة به إلى زيارتها أو الدفاع عنها.
ومثلما شعرنا بالخزي عندما صمتت وزارة الفاسي الفهري عن معاناة هؤلاء المغاربة المحتجزين في سجون العقيد، شعرنا بالخزي ذاته عندما تحركت سويسرا للدفاع عن الخادم المغربي وأخيه المحتجز بليبيا، في الوقت الذي صمتت فيه مصالح الخارجية المغربية، وأمرت عائلة الخادم المغربي المحررة من ليبيا بالتزام الصمت وتجنب الحديث إلى الصحافة.
ونفس هذه الوزارة التي أحنت رأسها بخنوع وجبن أمام حذاء العقيد العسكري وتقاعست عن الدفاع عن كرامة مواطنين مغاربة، هي نفسها الوزارة التي لبست علينا جلد «السبع بو البطاين» وجرجرت مدراء ثلاث جرائد دفعة واحدة أمام القضاء، بمباركة من وزير العدل، رئيس النيابة العامة التي على يدها تحركت شكاية «مكتب الأخوة».
وفي كل ما كتبناه وكتبه الزملاء الصحافيون المتابعون أمام القضاء بتهمة المس بكرامة «ملك الملوك»، ليست هناك أية إساءة أو شتم أو قذف، بل كل ما كتب يدخل في إطار حرية الرأي والتعبير التي استطاع الصحافيون المغاربة الأوائل تأسيسها وحمل راية الدفاع عنها الصحافيون الذين جاؤوا من بعدهم. وهي الحرية التي لا يسمح العقيد في جمهوريته العظمى بذرة واحدة منها، اللهم ما كان يرتكبه في تلفزيونه الرسمي من «طزطزة» ضد أمريكا، قبل أن تقصف بيته وتعلمه «الطزطيز» على «حقو وطريقو».
لذلك فأنا متأكد من أن هذه المحاكمة ليست سوى مسخرة ومهزلة أخرى من مهازل القضاء المغربي التي ستجعل العالم كله يتفرج علينا من جديد، ويسجل على المغرب في تقاريره أن الحكومة تستعمل القضاء بالوكالة كسوط لتأديب الصحافيين المشاغبين الذين يقلقون راحة عباس الفاسي وعائلته المحترمة في الحكومة. لأن موقف عباس في هذه المسخرة كموقف «كاري حنكو» الذي يأكل العقيد الثوم بفمه.
لهذه الأسباب لم أحضر جلسة المحاكمة يوم الاثنين الماضي، وقلت للأستاذ المحامي الذي ينوب عني في الملف أن يقبل بإدخال القضية إلى المداولة لكي يتم الحكم فيها بإدانتي وننتهي من هذه المسخرة. ولهذه الأسباب أيضا رفضت دعوة «الجزيرة» إلى المرور كضيف نشرة والحديث عن هذه المسخرة القضائية الجديدة، لأنني أعرف مسبقا أن الموضوع تافه وسخيف ولا يستحق منا سوى الشفقة لحال هؤلاء القادة الذين ترتعد فرائصهم من الصحف التي لا تلهج بحمدهم.
لقد كنت دائما من الذين ينتقدون بشدة الفساد القضائي، لكن هذا لم يمنعني يوما من تلبية نداء المحكمة كلما دعتني إلى المثول أمام العدالة. فانتقادنا للظلم القضائي لم يمنعنا من احترام القضاء والسادة القضاة.
لكن عندما يتم الاستخفاف بالقضاء المغربي ويتم تسخيره بهذه الطريقة الفجة للانتقام من مدراء الجرائد التي لا ترضى الحكومة ووزيرها الأول عن خطها التحريري المزعج، ثم تغلف هذا الهجوم بقفازة الدفاع عن سمعة رئيس دولة أجنبية، فليسمح لي هذا القضاء لكي أقول له إنني مستعد لتلقي إدانته بصدر رحب في نهاية هذه المسخرة. مستعد لكي أكون ضحية مؤامرة، لكنني غير مستعد تماما للمشاركة فيها. لأنني أعرف نهايتها جيدا، مثلما يعرفها الذين يحركون خيوطها من وراء الستار.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى